الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وبعد .
أيها الإخوة الكرام ؛ في سورة الأنفال آيات ، وهذه الآيات أرقامها عشرون وواحدة وعشرون واثنتان وعشرون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى :
من أدق الآيات المتعلقة بالسماع : "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه" ، تعرضوا عنه ، لا تديروا ظهوركم لهذه الدعوة ، لا تنصرفوا عنها ، هي تولوا عنه ، "وأنتم تسمعون" ، يعني كتاب الله يتلى عليكم صباحاً ومساء ، تستمع لهذا الكتاب ، بالمناسبات الحزينة ، في عقود القران أحياناً ، تسمع في الإذاعة أحياناً ، تقرؤه كل يوم ، أنت بين يديك كتاب الله عز وجل ، إذا أردت أن تخاطب الله فادعُهُ ، وإن أردت أن يخاطبك الله فاقرأ القرآن ،" لا تولوا عنه وأنتم تسمعون " ، مثلاً إنسان يقرأ القرآن ، يستمع للقرآن ، بلَغَهُ القرآن ، يَفهمُ القرآن ، ثم تجده يتعامل في بيته وفي تجارته بخلاف أحكام القرآن .
لذلك ورد في الحديث أنه : "ما آمن بالقرآن من أستحل محارمه ما آمن بالقرآن من أستحل محارمه "، وورد أيضاً : رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه ، وإذا قلت: صدق الله العظيم ، ولم تكن مطبقاً لأحكام القرآن ، فهذا كلام منكَ غير صحيح ، أنت ما صدقته ، أنت في الحقيقة تكذبه .
والاتجاه الجديد حاليًا في العالم كله ، أن الإنسان لا يُقَيَّم أبداً من أقواله ولا من معتقداته ، بل يُقَيَّم فقط من سلوكه ، لأن سلوك الإنسان هو الترجمة الحقيقة لمعتقداته وتصوراته ، فإذا قال إنسان : أنا مؤمن بالله ، وأسعى للآخرة ، وأخاف دخول جهنم ، ولم تر في عمله ما يؤكد ذلك فهو كاذب .
فبالسلوك إذًا التقييم الحقيقي ، لأنّ رفع الشعار سهل ، الادِّعاء سهل ، دعوة الانتماء سهلة ، كل إنسان لسانه يتكلم كما يشاء لكثرة الكذب والدجل والتزوير والانتماءات الباطلة ، والادعاءات الفارغة لدى الناس .
لذلك اتَّجه الناس الآن إلى تقييم الإنسان لا من أقواله ، ولا من تصوراته ، ولا من إشاراته ، ولا من لفتاته ، بل من عمله فقط ، هذا المعنى تؤكده هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون" . أيْ تسمع القرآن ، والآية الأخرى تقول : " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " .
( سورة النور : 30 )
فكيف تطلق بصرك في الحرام ، والآية تقول : " ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم " .
( سورة البقرة : 221 )
كيف ترضى لابنتك زوجًا غنيًا ولا يصلي ، وليس فيه دين .
والله عز وجل قال أيضًا : "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" .
( سورة البقرة : 276 )
فكيف تتعامل تعاملاً ربوياً .
والله عز وجل يقول : "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم " .
( سورة التوبة : 103 )
فكيف تقصر في دفع الزكاة .
والله عز وجل يقول : "وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " .
( سورة يوسف : 52 )
فكيف تحتال على بعض الناس ؟.
إنّ القرآن بين أيدينا ، وعلى الإنسان أنْ يكون صادقًا مع نفسه ، يعني هذه النشاطات الفارغة ، كل عبادة لا تكلف شيئًا يبادر لها ، أما عند الدفع ، عند الحلال ، عند الحرام ، عند الأخذ ، عند العطاء ، عند أداء الحقوق ، عند الاعتراف بالحقوق يقول : عليك بالمحاكم ، أهذا شأن المؤمن ؟ يقول لك : هذه المحاكم أمامك ، يجب أن تؤدي الحق من دون دعوى إنْ كنتَ مؤمنًا ، ومن دون محكمة ، فالمؤمن وقَّافٌ عند القرآن ، يؤدِّي كلّ حقٍّ عليه .
" ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون" ، الآية التي بعدها : "ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " ، ذكرت هذا قبل فترةٍ في بعض أحاديثي ، ماذا أراد الله بكلمة أننا سمعنا ؟! وقد ذكرتُ يومها مثلاً يوضِّح الآية .
إذا شاهد شخصٌ على كتف صديقه عقربًا ، وقال له : العقرب العقرب ، فالذي على كتفه العقرب قال بهدوء وراحة وبساطة : أنا أشكرك أشدَّ الشكر على هذه الملاحظة القيِّمة ، وأنا لا أملك إلا أن أعبِّر عن تقديري الجزيل لهذه اللفتة البارعة ، فقد سمع ما قال له ، وحذَّره ، فإذا بقي هادئًا ، فلعلّ اهتزاز الصوت وصل إلى طبلة أذنه ولم يفهم شيئًا ، فالعلماء يفرقون بين الصوت والكلام ، ممكن أنْ تسمع ضجيجًا ، وممكن أنْ تسمع من بعيد إنسانًا يتكلم ، لكنّك لم تفهمْ من كلامه شيئًا ، فهذا يعني صوتًا، اهتزاز بوسط مرن ، هذا هو الصوت ، لكن مضمون هذا الصوت هل فهمته ؟ لا .
قال تعالى : "ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ".
يعني أنّ الله عز وجل أراد بالسماع التطبيق ، شيء طبيعي إذا قيل لإنسان : على كتفك عقرب فانتبه ، أن يقفز ، ويهيب واقفا ، وأن ترتعد مفاصله ، وبعد أن يزيله عن كتفه يقول : شكراً ، أما إذا جامله ، معنى ذلك أنه ما سمع قولَه ، لقد سمِع صوتًا ، ولم يفقه له معنًى .
فحينما يخاطب المؤمن خطاباً معيناً ولا يتحرك ، فهذا المؤمن إنْ لم يتحرك فهذا لم يفهم مِن الخطاب شيئًا ، نحن في ذكرى الهجرة هذه الأيام ، والله عز وجل قال: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " .
( سورة الأنفال : 72 ) .
فإذا لم تأخذ موقفًا عمليًا ، وإذا لم تتحرك ، ولم تقف موقفًا إيجابيًا ، ولا اندفعت، ولا أعطيت ، ولا منعت ، ولا وصلت ، ولا قطعت ، ولا غضبت ، إن لـم تتحرك ، بناءً على معتقداتك ، فهذا الاعتقاد السلبي الذي لا يقدم ولا يؤخر لا شأن له عند الله .
"ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ".
لو سمعت الحق لأمضيت الوقت كله في التقرب إلى الله عز وجل ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في بعض الأحاديث : إنّ روح الميت ترفرف فوق النعش ، تقول يا أهلي يا ولدي ، لا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم ، والتبعة عليّ .
جاء في الحديث الشريف أنه : ما من بيت ، إلا وملك الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات ، فإذا رأى أن العبد قد انقضى أجله ، وانقطع رزقه ، ألقى عليه غم الموت ، فغشيته سكراته ، فمن أهل البيت ، الناشرة شعرها والضاربة وجهها ، والصارخة بويلها ، يقول ملك الموت : ممَّ الفزع ؟ وممَّ الجزع ، ما أذهبت لواحد منكم رزقاً ، ولا قربت له أجلاً ، وإنّ لي فيكم لعودة ، ثم عودة ، حتى لا أبقي منكم أحداً ، يقول عليه الصلاة والسلام : فو الذي نفس محمد بيده ، لو يرون مكانه ، ويسمعون كلامه ، لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم .